خامسا : مواقف ملوكهم ، وزعمائهم من دعوته ،فقد
سبق الإشارة إلى إسلام النجاشي – رضي الله عنه - ، وإقرار هرقل بالنبوة
لكنه لم يسلم ، ومثله ما كان من المقوقس ملك مصر وكان نصرانيا ، فقد أرسل
النبي – صلى الله عليه وسلم – إليه بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام ، وكان
رسوله إليه حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - قال حاطب : قدمت على
المقوقس ( واسمه جريح بن مينا ) بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فقلت له :إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى ، فأخذه الله نكال الآخرة
والأولى ، فانتقم به ثم انتقم منه ، فاعتبر بغيرك ولا يعتبر بك . قال :
هات . قلت : إن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير منه ، وهو الإسلام الكافي
بعد ما سواه ،إن هذا النبي دعا الناس إلى الله فكان أشدهم عليه قريش ،
وأعداهم له اليهود ، وأقربهم منه النصارى ، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا
كبشارة عيسى بمحمد ، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة
إلى الإنجيل ، وكل من أدرك نبيا فهو من أمته ، فالحق عليهم أن يطيعوه ،
فأنت ممن أدركت هذا النبي ولسنا ننهاك عن دين المسيح ، ولكنا نأمرك به ، ثم
ناوله كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قرأه قال خيرا : قد
نظرت في هذا ، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ، ولا ينهى عن مرغوب فيه ، ولم
أجده بالساحر الضال ، ولا الكاهن الكاذب ، ووجدت معه آلة النبوة . ثم جعل
الكتاب في حق من عاج ، وختم عليه ، ودفعه إلى خازنه ، وكتب جوابه إلى رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - : فقد علمت أن نبيا قد بقي ، وقد أكرمت رسولك .
وأهدى
للنبي - صلى الله عليه وسلم - جاريتين ، وبغلة تسمى ( الدلدل ) ، فقبل
النبي - صلى الله عليه وسلم - هديته ، واصطفى الجارية الواحدة واسمها مارية
القبطية لنفسه ، فولدت منه إبراهيم ، وأعطى الأخرى لحسان بن ثابت ، فولدت
منه عبد الرحمن .فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ضن الخبيث بملكه ، ولا
بقاء لملكه ). [ الجواب الصحيح 1/293 ].
وممن
أسلم من نصارى العرب ، وكان من أشرافهم عامل الروم على من يليهم من العرب
فروة بن عمرو الجذامي ، لما رأى من آيات ، وعلامات دلت على صدق نبوته –
صلى الله عليه وسلم -، وكان منزله معان وما حولها من أرض الشام ، وبعث إلى
الرسول – صلى الله عليه وسلم - بإسلامه ولم ينقل أنه اجتمع به ، وأهدى له
بغلة بيضاء ، فبلغ الروم إسلامه ، فطلبوه فحبسوه، ثم قتلوه .
فقال في ذلك أبياتا منها قوله :
أبلغ سراة المسلمين بأنني سلم لربي أعظمي وبناني .
[ابن حجر ، في الإصابة في تمييز الصحابة 5/386 ].
ومن
نصارى العرب الذين أسلموا ، الجارود بن عمرو ، وكان سيدا في قومه بني عبد
آلاف ورئيسا فيهم ،وكان يسكن البحرين ، وفد على النبي - صلى الله عليه
وسلم - سنة تسع من الهجرة ،وفرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقدمه ، وقد
كان صلبا في إسلامه ، فقد ثبت على الإسلام بعد وفاة النبي - صلى الله عليه
وسلم - ومن تبعه من قومه ، ولم يرتد مع من ارتدوا . [ابن عبد البر ، في
كتاب الاستيعاب 1/263، والإصابة 1-441].
سادسا : إخبار من اطلع على كتبهم ، بأنه مذكور فيها ،ويشهد
له ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما - عن ذكر النبي –
صلى الله عليه وسلم - في التوراة حيث قال : وهو موصوف في التوراة ببعض
صفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، وحرزا
للأميين ، أنت عبدي ورسولي ،سميتك المتوكل ، ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا
سخاب في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ،ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه
الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله، ويفتح بها
أعينا عميا ، وآذانا صما وقلوبا غلفا . [ أخرجه البخاري حديث رقم 2018 ].
وشاهد
آخر حدث في خلافة عمر – رضي الله عنه - ،قال أبو العالية :لما فتح
المسلمون تستر ، وجدوا دانيال – عليه السلام – ميتا ، ووجدوا عنده مصحفا ،
قال أبو العالية : أنا قرأت ذلك المصحف وفيه : صفتكم ،وأخباركم ، وسيرتكم ،
ولحون كلامكم .[ هداية الحيارى لابن قيم الجوزية ص109 ].
سابعا : أن المكذبين والجاحدين لنبوته – صلى الله عليه وسلم- لم يمكنهم إنكار البشارة والإخبار بنبوةنبي
عظيم الشأن كمحمد عليه الصلاة والسلام ، جاء ذكره ، وجاءت صفته وصفة أمته ،
ومكان وزمن خروجه في كتبهم ، لكنهم جحدوا أن يكون هو المقصود ، وأنه نبي
آخر غيره حسدا من عند أنفسهم وكبرا وعلوا ، يبين ذلك ما رواه رجل من الأوس
اسمه سلمة بن سلامة ، قائلا : كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل ،
قال : فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل ، وأنا يومئذ
حدث – يعني صغير - علي بردة لي ، مضطجع فيها بفناء أهلي، فذكر القيامة
والبعث والحساب والميزان والجنة والنار ، فقال ذلك في أهل يثرب ، والقوم
أصحاب أوثان ، بعثا كائنا بعد الموت .
فقالوا
له :ويحك ! أترى هذا كائنا يا فلان ، إن الناس يبعثون بعد موتهم إلى جنة
ونار ، ويجزون فيها بأعمالهم ؟ قال: نعم ، والذي يحلف به . قالوا : يا فلان
ويحك ! ما آية ذلك ؟ قال : نبي مبعوث من نحو هذه البلاد .وأشار بيده إلى مكة،
قالوا : ومتى نراه ؟ قال :فنظر إلي ، وأنا أصغرهم سنا ، فقال: إن يستنفذ
هذا الغلام عمره يدركه .قال سلمة : فوالله ، ما ذهب الليل والنهار حتى بعث
الله تبارك وتعالى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو حي بين أظهرنا ،
فآمنا به وكفر بغيا وحسدا ، فقلنا له : ويحك يا فلان ! ألست الذي قلت لنا
فيه ما قلت ؟ قال : بلى ولكنه ليس به .[ رواه الإمام أحمد ، وابن حبان
وصححه ، والحاكم في المستدرك ( ح/ 5764 ) ، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، وانظر هداية الحيارى لابن قيم الجوزية ص 66].
وكان
اليهود بالمدينة يتوعدون الأوس والخزرج عندما ينالون منهم ما يكرهون بخروج
النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقولون لهم: إنه تقارب زمان نبي يبعث
الآن ، نقتلكم معه قتل عاد وإرم .فلما بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم
- أجابه الأوس والخزرج حين دعاهم إلى الله تعالى ، فآمنوا به وكفر اليهود
به . وفيهم نزل هؤلاء الآيات من البقرة: (
ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على
الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين "[ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/37 ].
لذلك
كان الصحابة – رضي الله عنهم - يذكرون اليهود بما كانوا يذكرونه لهم قبل
مبعثه ، فقال لهم معاذ بن جبل ، وسعد بن عبادة ، وعقبة بن وهب رضي الله
عنهم : يا معشر يهود ! اتقوا الله ، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله ،
لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه ، وتصفونه لنا بصفته .فقال رافع بن حريملة
، ووهب بن يهوذا : ما قلنا لكم هذا قط ، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ،
ولا أرسل بشيرا ، ولا نذيرا بعده . فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما : {يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى
فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ
نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ }[ سورة المائدة الآية : 19.]، ابن إسحاق انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/101].
وهاهم
اليهود تتوالى أسئلتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - رغم رؤيتهم لكثير من
علامات النبوة التي يعرفونها من التوراة ، فجاءت مجموعة من اليهود نبي الله
- صلى الله عليه وسلم - يوما ،فقالوا : يا أبا القاسم ، حدثنا عن خلال
نسألك عنهن ، لا يعلمهن إلا نبي .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
سلوني عما شئتم ،ولكن اجعلوا لي ذمة الله ، وما أخذ يعقوب عليه السلام على
نبيه ، لئن حدثتكم شيئا فعرفتموه لتتابعني على الإسلام ).
قالوا
:فذلك لك . قال : ( فسلوني عما شئتم ) .قالوا : أخبرنا عن أربع خلال نسألك
عنهن : أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟
وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل ، كيف يكون الذكر منه؟ وأخبرنا كيف هذا
النبي الأمي في النوم ؟ ومن وليه من الملائكة ؟
قال : ( فعليكم عهد الله وميثاقه ، لئن أنا أخبرتكم لتتابعني ).قال : فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (
فأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى صلى الله عليه وسلم ، هل تعلمون أن
إسرائيل يعقوب عليه السلام مرض مرضا شديدا ، وطال سقمه ، فنذر لله نذرا ،
لئن شفاه الله تعالى من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه ،
وكان أحب الطعام إليه لحمان : الإبل ، وأحب الشراب إليه ألبانها ). قالوا: اللهم نعم .قال : (
اللهم اشهد عليهم ، فأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة
على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق ،
فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله :إن علا ماء الرجل على ماء
المرأة كان ذكرا بإذن الله ، وإن علا ماء المرأة على ماء الرجل كان أنثى
بإذن الله ).قالوا : اللهم نعم . قال: ( اللهم اشهد عليهم ، فأنشدكم بالذي انزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه ).قالوا: اللهم نعم .قال اللهم اشهد ). قالوا : وأنت الآن ، فحدثنا من وليك من الملائكة ؟ فعندها نجامعك ، أو نفارقك ! قال : ( فإن ولي جبريل عليه السلام،ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه ). قالوا : فعندها نفارقك ! لو كان وليك سواه من الملائكة لتابعناك وصدقناك . قال : ( فما يمنعكم من أن تصدقوه ) .قالوا : إنه عدونا . فعند ذلك قال الله عز وجل : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله )..إلى قوله عز وجل : (كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعملون ) ،فعند ذلك باؤا بغضب على غضب الآية [رواه الإمام أحمد 1/278 ].
وكان
عمر يذهب إلى يهود ، ويأتيهم ، يقول عمر رضي الله عنه : فبينما أنا عندهم
ذات يوم ، قالوا: يا ابن الخطاب ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك . قلت :
ولم ذلك ؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا . قال قلت : إني آتيكم فأعجب من
الفرقان كيف يصدق التوراة ، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان ؟! قال : ومر
رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : يا ابن الخطاب ! ذاك صاحبكم
فالحق به .
فقلت
لهم عند ذلك : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، وما استرعاكم من حقه ،
واستودعكم من كتابه ، أتعلمون أنه رسول الله ؟؟ قال : فسكتوا !! فقال
عالمهم وكبيرهم : إنه قد عظم عليكم ، فأجيبوه . قالوا : أنت عالمنا وسيدنا ،
فأجبه أنت . قال : أما إذ أنشدتنا به ، فإنا نعلم أنه رسول الله!
قلت ويحكم ! - أي هلكتم - قالوا : إنا لم نهلك . قال :قلت كيف ذاك ؟ وأنتم تعلمون أنه رسول الله ، ثم لا تتبعونه ، ولا تصدقونه؟!!
قالوا
: إن لنا عدواً من الملائكة وسلما من الملائكة ، وإنه قرن به عدونا من
الملائكة. قلت : ومن عدوكم ، ومن سلمكم ؟ قالوا : عدونا جبريل ، وسلمنا
ميكائيل [تفسير الطبري 1/433 ، وانظر فتح الباري 8/661 ].
وهذه
شهادة ابن صوريا ، وكان أعلم من بقي من يهود بني قريظة بالتوراة ، فقد
جاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قصة اليهودي واليهودية الذين
زنيا ، فقال : ( يا معشر يهود ! أخرجوا إلي علماءكم ) .فأُخرج له عبد الله
بن صوريا ، ومعه أبا ياسر بن أخطب ، ووهب بن يهوذا ، فقالوا : هؤلاء
علماؤنا . فسألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى حصل أمرهم ، إلى أن
قالوا لعبد الله بن صوريا : هذا أعلم من بقي بالتوراة . فخلا به رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - وكان غلاما شابا من أحدثهم سنا ، فألظ به رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - المسألة ، يقول له : ( يا بن صوريا أنشدك الله
، وأذكرك بأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد
إحصانه بالرجم في التوراة ؟) قال: اللهم نعم ، أما والله يا أبا القاسم !
إنهم ليعرفون أنك لنبي مرسل ،ولكنهم يحسدونك .
ثم
كفر بعد ذلك ابن صوريا ، وجحد نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فأنزل الله تعالى فيهم : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر
من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون
للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ) [ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن
هشام 3/103].
وكانوا
يصرحون بانطباق ما يعرفونه من صفات في كتبهم على النبي - صلى الله عليه
وسلم - فقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا منهم جاء إلى مسجده ،
فقال : ( يا فلان ). فقال : لبيك يا رسول الله . فقال النبي صلى الله عليه
وسلم : ( أتشهد أني رسول الله ). قال : لا . قال : ( أتقرأ التوراة ؟ ) .
قال : نعم ، والإنجيل .قال : ( والقرآن ؟ ) .قال : والذي نفسي بيده ، لو
أشاء لقرأته . ثم ناشده : ( هل تجدني في التوراة والإنجيل ؟ ). قال : أجد
مثلك ، ومثل هيأتك ، ومثل مخرجك !وكنا نرجو أن يكون منا ، فلما خرجت تحيرنا
أن يكون أنت هو ، فنظرنا فإذا ليس أنت هو. قال: ( ولم ذاك ؟ ).قال : إن
معه من أمته سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير نجاسة ولا عذاب ، ومعك يسير .قال
: ( فوالذي نفسي بيده لأنا هو ، وإنهم لأمتي ، إنهم لأكثر من سبعين ألفا
وسبعين ألفا ).[ قال الهيثمي :رواه الطبراني ، ورجاله ثقات من أحد الطريقين
، انظر مجمع الزوائد للهيثمي 8 /242].
ثم تأمل هذا المسلك الذي اتخذه اليهود ليحرفوا الكلم عن مواضعه،
ولينكروا نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم - إذا خرج في الوقت والمكان
وبالصفة التي علموها . يقول أحمد حجازي - في كتابه البشارة بنبي الإسلام
1/132- : أن كثيرا من علماء بني إسرائيل يقولون : أن اسم ( محمد ) – صلى
الله عليه وسلم - قد ورد في التوراة ، في سياق بركة إسماعيل – عليه السلام
- بحساب ( الجمل ). ليعرف الناس أنه بظهوره يبدأ ملك بني إسماعيل .
ثم
يورد حجازي شهادة أحد علمائهم الذين أسلموا ، وهو شموئيل بن يهوذا بن أيوب
، الذي سمى نفسه بعد إسلامه : ( السموءل بن يحي ) ، فقد ذكر في كتابه (
بذل المجهود في إفحام اليهود ) تحت عنوان : الإشارة إلى اسمه – صلى الله
عليه وسلم :
ما
جاء في الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة أن الله تعالى خاطب
إبراهيم عليه السلام : ( وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاءك . قد باركت فيه .
وأثمره ، وأكثره جدا جدا ) .
ذلك قوله – أي باللغة العبرانية - : ( ولشماعيل . شمعتيخا . هني . بيراختى . أوتو . وهفريتى . أوتو . وهربيتي . أوتو بماد ، ماد ) .
فهذه
الكلمة ( بماد ماد ) إذا عددنا حساب حروفها بالجمل . وجدناه اثنين وتسعون .
وذلك عدد حساب حروف (محمد ) – صلى الله عليه وسلم - فإنه أيضا اثنان
وتسعون . وإنما جعل ذلك في هذا الموضع مُلغّزاً. لأنه لو صرح به لبدلته
اليهود وأسقطته من التوراة . يقول حجازي معلقا : ولم لا يقول شموئيل : أن
الله تعالى قد صرح به من قبل أن تغير التوراة ، واليهود هم الذين غيروا
الاسم الصريح بالرمز في مدينة بابل ، ليعرفوه هم أنفسهم إذا جاء ، ويسهل
عليهم جحد نبوته إذا جاءهم بما لا تهوى أنفسهم ؟!
وحساب
الجمل عرف في الأمم القديمة ، وهو الحساب بالحروف الأبجدية ، فكل حرف
أبجدي يُرمز له برقم . وتكمن أهميته في عدم كشف الخصم للأسرار .[ انظر
تفصيل ذلك في كتاب البشارة بنبي الإسلام لـ أحمد حجازي السقا 1/135 ].
وشاهد
آخر حينما حضر يعقوب – عليه السلام - الموت جمع أولاده الإثني عشر حوله
وباركهم ، وأوصاهم ، وقال لهم في شخص يهوذا ابنه الرابع : ( لا يزول قضيب
من يهوذا . ومشترع من بين رجليه . حتى يأتي شيلون . وله يكون خضوع شعوب ) [
سفر لتكوين (49 : 8-12)، انظر البشارة بنبي الإسلام لـ أحمد حجازي 1/154
].
يقول
أحمد حجازي : من تراجم اليهود والنصارى قديما وحديثا يتضح : أن المراد
بالقضيب : الملك والصولجان . والمراد بالمشترع : الأنبياء ، والعلماء الذين
يعلمون الناس شريعة التوراة ، ويستنبطون الأحكام منها . والمراد بشيلون :
النبي المنتظر ، الذي يلقبونه ( مَسِيَّا ) الذي تفسيره المسيح . وهو نبي
الإسلام – صلى الله عليه وسلم - الذي تخضع له الشعوب وتطيع .
والمعنى
العام : يظل لبني إسرائيل ملك ظاهر في الأرض ، وأنبياء بني إسرائيل
وعلماؤهم يعلمون الناس شريعة الله في ظل ملوك من بني إسرائيل . ويظل ذلك
قائما حتى يأتي نبي من غير بني إسرائيل ، ليتسلم منهم الملك والشريعة . وهو
المعبر عنه بشيلون .[ انظر البشارة بنبي الإسلام لـ أحمد حجازي 1/154 ].
ويرى
بعض علماء اليهود أن المقصود بهذه البشارة داود – عليه السلام - لأنه من
نسل يهوذا ، وقد احتل مدينة شيلوه في أرض كنعان ، وخضع له جميع أسبط بني
إسرائيل . وينقض هذا القول ، كتابة التوراة في بابل من بعد داود ، فكيف
تكون النبوءة لداود ؟!. وينقضه أيضا : ترجمة كلمة ( شيلون ) بما يفيد اسم
شخص ، لا بما يفيد اسم مدينة . فقد ترجمت بمعنى : ( الذي هو له ) أو ( الذي
له الأمر ) أو ( الذي له الحكم ) أو ( سليمان ) أو ( المسيح ) الذي هو
المسيا . وفسرت كلمة ( شيلون ) : بأمان وسلام .
أما
النصارى فيقولون : المقصود بشيلون المسيح عيسى بن مريم – عليه السلام - .
لكنه لاينطبق على عيسى –عليه السلام- فإنه لم ينسخ التوراة ، قال تعالى في
القرآن الكريم على لسان عيسى : ( ومصدقا لما بين يدي من التوراة ) [ سورة
الصف آية رقم 6] ، وقال عيسى –عليه السلام – في الإنجيل : ( لا تظنوا أني
جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ، ما جئت لأنقض ، بل لأكمل ) [ إنجيل متى (
5:17-18 )، انظر البشارة بنبي الإسلام لـ أحمد حجازي 1/ 70 ] ، ومن وجه آخر
لم يزل الملك من اليهود على يديه – عليه السلام - .
لذلك
فإن الذي تنطبق عليه لفظة ( شيلون ) هو محمد – عليه الصلاة والسلام - فإن
الملك لم يزل من بني إسرائيل إلا على يد بني إسماعيل، أتباع محمد صلى الله
عليه وسلم.[انظر البشارة بنبي الإسلام لـ أحمد حجازي 1/173 ].
ثامنا : أن من أهل الكتاب من صرح لخاصته ، وبطانته بأنه هو بعينه ،فهذا
ورقة بن نوفل ، وكان قد خرج لَّما كره عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها
يسأل عن الدين ، فأعجبه دين النصرانية فتنصر ، وكان لقي من بقي من الرهبان
على دين عيسى ولم يبدل ، وتعلم منهم ، فجاءته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد
– رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم – ومعها رسول الله – صلى
الله عليه وسلم - بعدما أخبرها بنزول الملك عليه ، فقالت خديجة – رضي الله
عنها - لورقة : يا بن عم ! اسمع من بن أخيك – تعني النبي صلى الله عليه
وسلم .
فقال
له ورقة : يا بن أخي !ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا
ليتني فيها جذع ، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك .
فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أو مخرجي هم ؟ ) قال: نعم ، لم يأت رجل
قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ، ثم لم
يلبث ورقة أن توفي [البخاري ح/2 ].
أما
خبر سيدا بني النضير :حيي بن أخطب ، وأبو ياسر ، فما أعجبه من خبر ، يدل
على معرفتهم به ، ويدل على سبب جحدهم رسالته ، وهذا الخبر عنهما ترويه لنا
أم المؤمنين صفية بنت حيي – رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم –
بعد إسلامها ، قالت :كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر ، لم ألقهما
قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه . فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- المدينة ، ونزل قباء في بني عمرو بن عوف ، غدا عليه أبي حيي بن أخطب
وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين ، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس ، فأتيا
كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى ، فهششت إليهما كما كنت أصنع ، فوالله
ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم ،قالت :وسمعت عمي أبا ياسر
وهو يقول لأبي حيي بن أخطب : أهو هو ؟؟ قال : نعم ، والله .قال: أتعرفه ،وتثبّتَّه ؟ قال : نعم .قال: فما في نفسك منه ؟قال :عداوته والله!! [ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/52].
وهذا
كعب بن أسد - سيد بني قريظة - ينصح قومه ، حين حاصرهم النبي - صلى الله
عليه وسلم - بعد نقضهم للعهد الذي بينهم وبينه ، وتحزبهم مع الأحزاب ضد
النبي - صلى الله عليه وسلم وأصحابه - فلما أيقنوا بأن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - غير منصرف عنهم حتى يناجزهم ، قال كعب بن أسد لهم : يا
معشر يهود! قد نزل بكم من الأمر ما ترون ، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا ،
فخذوا أيها شئتم .قالوا : وما هي ؟ فكان مما عرضه عليهم ، قوله : نتابع هذا
الرجل ونصدقه ، فوالله ، لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل ،وإنه للذي تجدونه
في كتابكم ، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم . فرفضوا وأبوا
[ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 4/195].
وها
هم نصارى نجران يصرحون بنبوته لبعضهم البعض ، فقد بعث رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - بكتابه إليهم يدعوهم فيه إلى الإسلام ، فلما قرأ الأسقف
الكتاب فظع به وذعر ذعراً شديدا ، ثم دعا أهل الرأي في نجران فأطلعهم على
الكتاب ،وتشاوروا فيه ، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا وفداً إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - فاختاروا ستين راكبا ، منهم أربعة عشر من أشرافهم ،
يتزعمهم ثلاثة منهم ، وهم : العاقب ، وكان أمين القوم ، وذو رأيهم وصاحب
مشورتهم ، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره ، واسمه عبد المسيح ، والسيد ،
وكان عالمهم ، وصاحب رحلهم ومجتمعهم ، وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن
وائل ، وكان أسقفهم وحبرهم ، وإمامهم وصاحب مراميهم .
وكان
أبو حارثة قد شرف فيهم حتى حسن علمه في دينهم ،وكانت ملوك الروم من
النصرانية قد شرفوه وقبلوه وبنوا له الكنائس ، وبسطوا عليه الكرامات لما
يبلغهم عنه من اجتهاده في دينهم ،فلما توجهوا إلى رسول الله – صلى الله
عليه وسلم - من نجران ، جلس أبو حارثة على بغلة له موجها إلى المدينة ،
وإلى جنبه أخ له يقال له :كرز بن علقمة يُسايره في الطريق، فعثرت بغلة أبي
حارثة ، فقال كرز : تعس الأبعد . - يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقال له أبو حارثة :بل أنت تعست !
فقال :ولم يا أخ ؟
قال :والله إنه للنبي الذي كنا ننتظر !!.
قال له كرز : وما يمنعك وأنت تعلم هذا أن تتبعه ؟!!
قال
: ما صنع بنا هؤلاء القوم :شرفونا وأمرونا وأكرمونا ، وقد أبوا إلا خلافه ،
ولو قد فعلت نزعوا منا كل ما ترى.فأضمر الإسلام أخوه كرز بن علقمة ، وأسلم
بعد ذلك [ المعجم الأوسط رواه الطبراني في المعجم الأوسط ح/ 3906 ].
فلما
وصلوا المدينة جلسوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلمه منهم أبو
حارثة بن علقمة والعاقب عبد المسيح والسيد الأيهم _ وهم من النصرانية على
اختلاف في أمرهم :
منهم
من يقول عن عيسى هو الله ، ومنهم من يقول هو ولد الله ، ومنهم من يقول هو
ثالث ثلاثة ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ، فهم يحتجون في قولهم هو
الله :
بأنه كان يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص والأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا ، وذلك كله بأمر الله ، وليجعله الله آية للناس .
ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله ، يقولون :
لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله .
ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة ، يقولون :
قال
الله تعالى فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا ، فيقولون :لو كان واحدا ، ما قال
إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت ، ولكنه هو وعيسى ومريم .تعالى الله وتقدس
وتنزه عما يقول الظالمون والجاهلون علوا كبيرا ،ويقال
لهم إن: معنى هذه الكلمات ، ومثلها قوله تعالى "نحن" من المتشابه ،
فالواحد المعظم لنفسه يقول: نحن ، والجماعة يقولون : نحن ، وهذا لا يلتبس
بكتاب الله؛ لأننا نرده إِلَى المحكم ، وهو قوله: {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }[سورة العنكبوت الآية : 46 ]، وقوله تعالى :{ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ }[الأنعام:19] ، وقوله تعالى:{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ } [المائدة:73]-
فلما
كلمه الحبران العاقب والسيد ، دعاهما النبي – صلى الله عليه وسلم -
للإسلام ، فأبيا ، وجادلوه في عيسى عليه السلام ، وقالا :فمن أبوه يا محمد ؟
فأنزل الله عليه الوحي:{إِنَّ
مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ
قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [سورةآل عمران الآية: 59].
قال
ابن كثير رحمه الله : فالذي خلق آدم من غير أب وأم ، قادر على أن يخلق
عيسى بطريق الأولى والأحرى ، ولكن الرب -جل جلاله أراد- أن يظهر قدرته
لخلقه حين خلق آدم – عليه السلام - لا من ذكر ولا من أنثى ، وخلق حواء –
عليها السلام - من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى – عليه السلام - من أنثى بلا
ذكر ،كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى ، ولهذا قال تعالى في سورة مريم : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ }[سورة مريم الآية :21]، وقال هاهنا : {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ }[
سورة آل عمران الآية :60 ]، أي هذا هو القول الحق في عيسى – عليه السلام -
الذي لا محيد عنه ، ولا صحيح سواه ، وماذا بعد الحق إلا الضلال . [تفسير
القرآن العظيم للإمام ابن كثير 1/368 ، وانظر موقع الدكتور : سفر الحوالي
على شبكة الإنتر نت].
ثم
أمر الله تعالى رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يُباهل من عاند
الحق في عيسى - عليه السلام - وأكثر الجدال بعد ظهور الحق البين فيه ، فقال
الله تعالى:{
فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ
تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ
وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ
عَلَى الْكَاذِبِينَ }[ سورة آل عمران الآية: 61 ] ، فلما
دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - للمباهلة والملاعنة قالوا : يا أبا
القاسم ، دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه
.
ثم انصرفوا عنه ، وخلوا بالعاقب وكان ذا رأيهم ، فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى ! لقد عرفتم إن محمدا لنبي مرسل،ولقد
جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ،ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط فبقى
كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، وإنه الاستئصال منكم إن فعلتم ،فإن كنتم أبيتم
إلا إلف دينكم ، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعوا
الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.[ ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام
3/125].
فلما
أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إليهم ومعه الحسن والحسين
وفاطمة تمشي خلفه. [قال ابن كثير : أخرجه البيهقي في دلائل النبوة ، انظر
تفسير القرآن العظيم 1/369 ]. فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال
العاقب والسيد: لا نلاعنك ،ولكنا نعطيك ما سألت ، فابعث معنا رجلا أمينا .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لأبعثن رجلا أمينا حق أمين ، حق أمين ) .
فاستشرف لها أصحابه -رضي الله عنهم - فقال : ( قم يا أبا عبيدة بن الجراح
). فلما قفا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( هذا أمين هذه الأمة ).
[رواه الإمام أحمد 1 /414 ، وانظرتفسير القرآن العظيم 1/369] ، فعادوا إلى
نجران ،وبقي من وفدهم قيس بن أبي وديعة مرض فأقام بالمدينة نازلا على سعد
بن عبادة ، فعرض عليه الإسلام فأسلم و رجع إلى حضرموت وشهد قتال الأسود
العنسي ثم انصرف إلى المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم .[الإصابة
5/508 ].
ولم
يلبث السيد والعاقب إلا يسيرا حتى رجعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
فأسلما ، وأنزلهما دار أبي أيوب الأنصاري. [ابن حجر في الإصابة 3/236 ، عن
ابن سعد في الطبقات 1/358 ].
أما
حنان الأبوة المتمثل في الشفقة على الابن من النار فغلب صفة الحسد والكبر
لدى والد ذلك الغلام الذي كان جاراً للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان
غلام يهودي يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرض ، فأتاه النبي - صلى
الله عليه وسلم - يعوده ، فقعد عند رأسه ، فقال له : ( أسلم ) . فنظر إلى
أبيه ، وهو عنده ، فقال له: أطع أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - .
فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : ( الحمد لله الذي أنقذه من
النار ) . [رواه الإمام البخاري ح/1290 ].
وعكسه
ماِفعله والد كعب الأحبار ، حيث خشي أن يعلم ابنه عن النبي الخاتم فيتبعه ،
فقد سأل العباس كعب الأحبار : ما منعك أن تسلم في عهد رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وأبي بكر ؟
قال
إن أبي كان كتب لي كتابا من التوراة ، فقال اعمل بهذا ، وختم على سائر
كتبه ،وأخذ عليَّ بحق الوالد على الولد ألا أفض الختم عنها ، فلما رأيت
ظهور الإسلام قلت لعل أبي غيب عنى علما ، ففتحتها فإذا صفة محمد وأمته ،
فجئت الآن مسلما .[الإصابة 5/649. ].
وهذه
قصة طريفة - وهي شاهد على ما نتحدث عنه - ، حدثت للدكتور أحمد حجازي السقا
مؤلف كتاب البشارة بنبي الإسلام ، حيث يروي : أنه التقى بـ ( قمص ) نصراني
، ظن أنه نصراني لأنه كان يقرأ في الكتاب المقدس ، فدار بينهما حوار حول
الأحداث التي يشير إليها الإصحاح الثامن من سفر دانيال النبي – عليه
السلام- ، وبعد نزولهم من القطار سأله حجازي : أمحمد نبي المسلمين لا يشير
إليه الكتاب المقدس ؟
قال : يشير إليه في آيات كثيرة !! ثم سرد له كثيرا من تلك الآيات !!
ثم
عرف أن اسمه ( جرجس سلمون فيلمون )، وكان وكيل الدير المحرق في القوصية
بأسيوط . وهذا الموقف كان من أسباب كتابة حجازي لكتاب البشارة .[انظر
البشارة بنبي الإسلام 1/45 ].
تاسعا : إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه مذكور في كتبهم ،قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم
لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بتأويل ذلك :أنا دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى ،
ورؤيا أمي التي رأت ). [ رواه الإمام أحمد (4/128)، والبزار والطبراني ،
ومعنى منجدلٌ في طينته :أي مطروح على وجه الأرض صورة من طين لم تجر فيه
الروح بعد ، قاله الخطابي في الغريب 2/156 ].
وهذا
الإخبار منه – صلى الله عليه وسلم - هو من علامات نبوته ، من جهة إخباره
بما عندهم في كتبهم من شأن أنبيائهم ، ولم يكذبوه يوما واحدا في شيء منها ،
في الوقت الذي كانوا فيه أحرص ما يمكن على أن يظفروا منه بكذبة واحدة ، أو
غلطة أو سهو ، فينادون بها عليه ، ويجدون بها السبيل إلى تنفير الناس عنه ،
وهذا من أعظم الأدلة على صدقه .[ انظر هداية الحيارى في أجوبة اليهود
والنصارى لابن قيم الجوزية ص66 ].
فأخبرأنه دعوةإبراهيم الخليل حين بنى الكعبة بمكة ومعه ابنه إسماعيل عليهما السلام ، قال الله تعالى مبينا دعاءهما:
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً
مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ }[سورةالبقرة الآية: 128
– 129] .
وهذا يدعونا للحديث عن مباركة الله تعالى لنبيه إبراهيم - عليه السلام - وجعل هذه البركة في ذريته ، قال تعالى :{وَإِذِ
ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ }[ سورةالبقرة الآية: 124 ] ، والمقصود
بالعهد هنا قيل : الإمامة ، وقيل: النبوة ، وقيل غيره ، ومن دعاء إبراهيم
وابنه إسماعيل عليهما السلام : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة
مسلمة لك ).
وقد
جاء في التوراة ما صدقه القرآن من جعل البركة في إبراهيم - عليه السلام -
وفي نسله إسماعيل وإسحاق – عليهما السلام - وهذا ما ذكره أحمد حجازي في
كتابه البشارة بنبي الإسلام ففي سفر التكوين ( 17 : 16 ) : أن الله عز وجل
قال لإبراهيم – عليه السلام - عن سارة رضي الله عنها : ( أباركها ،
وأعطيك منها ابنا ، أباركها فتكون أمما وملوك شعوب منها ما يكون ).
فلما
سمع إبراهيم – عليه السلام – بتخصيص بركته في إسحاق عليه السلام ( قال
إبراهيم لله : ليت إسماعيل يعيش أمامك )، أي يحيا في طاعتك ، والدعاء إلى
دينك ، فرد الله تعالى عليه بقوله : ( وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه . ها
أنا أباركه وأثمره ، وأكثره كثيرا جدا . اثني عشر رئيسا . واجعله أمة كبيرة
) .[ سفر التكوين 17 : 18- 20 ].
ويواصل أحمد حجازي : ومن هذا النص صارت لإسماعيل بركة كما لإسحاق بركة .
ولما
تأكدت سارة من إرث إسماعيل لأبيه في البركة كابنها إسحاق سواء بسواء ،
طلبت أن يكون حق الإرث لإسحاق وحده ، فقال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام
: ( بإسحاق يدعى لك نسل . وابن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك ) [ سفر
التكوين : 21: 12-13 ] .
ولما
ابتعدت هاجر – رضي الله عنها – عن مكان سارة – رضي الله عنها - إلى مكان
غير ذي زرع ( نادى ملاك الله هاجر من السماء . وقال لها : مالك يا هاجر .
لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو . قومي احملي الغلام ، وشدي
يدك به ، لأني سأجعله أمة عظيمة ) [سفر التكوين 21: 17 – 18 ].
وعلماء
بني إسرائيل يقولون : إن البركة تعني أمران : الأول : الملك . والثاني :
النبوة . ويقولون : إن بركة إسحق – عليه السلام - خصصت في ابنه يعقوب (
إسرائيل ) من بين بنيه ، وقد تحققت من الوقت الذي ظهر فيه موسى – عليه
السلام - فقد كان نبيا ورئيسا مطاعا .
ونحن
نقول لهم – والكلام لا زال لحجازي - : وكما دل دليل اسحق – عليه السلام -
على ملك ونبوة ، وذلك في قوله : ( وأعطيك منها ابنا ، أباركها فتكون أمما
وملوك شعوب ..) . فإن دليل إسماعيل – عليه السلام - مثله ، فإنه يدل على
ملك ونبوة ، وذلك في قوله : ( ها أنا أباركه ، وأثمره ، وأكثره كثيرا جدا )
،فإنه لا فرق بين الدليلين في اللفظ والمعنى .[ انظر البشارة بنبي
الإسلام 1/100- 103 ].
وقد
جاء الإخبار بنبوة محمد- صلى الله عليه وسلم - على لسان موسى – عليه
السلام – في التوراة بما نصه : ( وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل
الله بني إسرائيل قبل موته . فقال : جاء الرب من سيناء . وأشرق من سعير .
وتلألأ من جبل فاران .).[ سفر التثنية ( 33: 1-4 )، البشارة بني الإسلام
1/260 ].
ومعنى
مجيء الله من طور سينا : إنزاله التوراة على موسى – عليه السلام - من طور
سينا ، ومعنى إشراقه من ساعير: إنزاله الإنجيل على المسيح – عليه السلام - ،
وكان المسيح من ساعير أرض الخليل بقرية تدعى ناصرة ، وباسمها يسمى من
اتبعه نصارى . وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح ، فكذلك يجب أن
يكون استعلانه من جبال فاران ، إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم
.
وجبال
فاران : هي جبال مكة . وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن
فاران هي مكة ، فإن ادعوا أنها غير مكة ، فإن ذلك من تحريفهم الكلم عن
مواضعه ، خاصة وأن في التوراة أن إسماعيل سكن في برية فاران ، جاء في
التوراة : ( وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية ، وكان ينمو رامي قوس
، وسكن في برية فاران . وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر ) [ سفر التكوين
21: 20-12 ]. والبرية التي بين مكة وطور سينا تسمى برية فاران ، ولا
يمكن لأحد أن يدعي أنه بعد المسيح – عليه السلام - نزل كتاب في شيء من تلك
الأرض ، ولا بعث نبي ، فعلم أنه ليس بالمراد باستعلانه من جبال فاران
إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم .
وهو
سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزماني ، لأنه في مقام الخبر عنها
، فقدم الأسبق فالأسبق ، فذكر إنزال التوراة ، ثم الإنجيل ثم القرآن ،
وهذه الكتب نور الله وهداه .
وهذه الأماكن الثلاث أقسم الله بها في القرآن ، في قوله تعالى:{وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ . وَطُورِ سِينِينَ . وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ .
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }[سورةالتين الآية: 1
– 4] ، فأقسم
بالتين والزيتون : وهو الأرض المقدسة الذي ينبت فيها ذلك ، ومنها بعث
المسيح – عليه السلام - وأنزل عليه فيها الإنجيل ، وأقسم بطور سينين : وهو
الجبل الذي كلم الله فيه موسى عليه السلام ، وناداه من واديه الأيمن من
البقعة المباركة من الشجرة ، وأقسم بالبلد الأمين : وهي مكة ، وهو البلد
الذي أسكن إبراهيم – عليه السلام - ابنه إسماعيل وأمه ، وهو الذي جعله الله
حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم خلقا وأمرا قدرا وشرعا ، فإن إبراهيم –
عليه السلام - حرمه ودعا لأهله فقال: {رَّبَّنَا
إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ
بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ
الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ }[سورةإبراهيم الآية: 37 ] ،
واختلاف ترتيب القرآن للأماكن الثلاثة عن ترتيبها في التوراة ، يرجع إلى
أن لقرآن أقسم بها تعظيما لشأنها ، وذلك تعظيم لقدرته سبحانه ، وآياته
وكتبه ورسله ، فأقسم بها على وجه التدريج ، درجة بعد درجة ، فختمها بأعلى
الدرجات ، فأقسم أولا بالتين والزيتنون ، ثم بطور سينا ، ثم بمكة ، لأن
أشرف الكتب الثلاثة القرآن ، ثم التوراة ، ثم الإنجيل ، وكذلك الأنبياء ،
فأقسم بها على وجه التدريج .[انظر الجواب الصحيح 5/198- 205 ، والبشارة
بنبي الإسلام 1/268 ].
ويُلحظ
أن الخطاب لبني إسرائيل لأجل أن يقبلوا بنبي الإسلام إذا جاء ، لأنه ليس
من بني إسرائيل ، وهذا يحتاج إلى تأكيد الأمر بالتباعه بخطاب خاص لهم ،
وليس معناه أنه منهم.[ البشارة بنبي الإسلام 1/275 ].
وجاء
في التوراة أن الله تعالى خاطب موسى – عليه السلام – بقوله : ( نبيا أقمت
لهم . من جملة إخوتهم . مثلك. وجعلت خطابي بفيه . فيخاطبهم بكل ما أوصيه
.ويكون الرجل الذي لا يسمع من خطابه باسمي . أنا أطالبه ) .[سفر الخروج 19
و20 ].
والمقصود
بهذه النبوءة نبي الإسلام محمد – صلى الله عليه وسلم - فهو نبي كما في
الوصف الأول لمجيئه بما يثبت نبوته ، وهو من نسل إسماعيل ، وإسماعيل وإسحق –
عليهما السلام - أخوان ، ففي التوراة أن أبناء إسماعيل إخوة لبني اسحق .
ففي سفر التكوين : ( وقال لها ملاك الرب : ها أنت حبلى فتلدين ابنا ،
وتدعين اسمه : إسماعيل . لأن الرب قد سمع لمذلتك . وإنه يكون انسانا وحشيا .
يده على كل واحد ويد كل واحد عليه ، وأمام إخوته يسكن )[ سفر التكوين 16 :
11-12] ، وأما عيسى -عليه السلام -فلا ينطبق عليه هذا الوصف لأنه من بني
إسرائيل ، ولو كان هذا النبي من بني إسرائيل لقال : من أنفسهم ، ولم يقل من
إخوتهم .هذا م